الله الذي قدم لنا الفداء بابنه الرب يسوع المسيح الذي مات من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا، ثم صعد إلى السماء، وقبل صعوده قال: [ لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم ] (يوحنا 14: 18).
المسيح بذلك صعد إلى السماء وأرسل لنا كوعده الصادق الروح القدس، ليُحقق فينا عمل الفداء وحياة القداسة التي بدونها لن يُعاين أحد الرب، وبذلك لم يتركنا يتامى حتى نُعاينه في مجده الآتي.
يعلن القديس بولس الرسول عن خمسة علامات للروح القدس، ويُعطينا أعمق الاختبارات المسيحية، وهي واضحة في رسالته الثانية لأهل كورنثوس إذ يقول:
[ لكن الذي يُثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختَمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا ] (2كورنثوس1: 21، 22)
[ ظاهراً أنكم رسالة المسيح مخدومة منَّا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي. لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية ] (2كورنثوس3: 3)
[ ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كورنثوس 3: 18)
عزيزي القارئ أرجوك لتفتح قلبك إلى هذه الكنوز الإلهية الموهوبة لنا بروح الله القدوس لكي تحصُل على أمجادها وقوتها في حياتك الروحية وهي:
أولاً: المسحة: [ الذي يُثبتنا معكم وقد مسحنا هو الله ] (1كورنثوس 1: 21)
إن الرب يسوع هو (الممسوح) طبقاً لاسمه (المسيح) وحسب الأسفار المقدسة التي تُخبرنا أن مسيح تعني ممسوح.
الشخص المسيحي اعتمد ولبس المسيح وانتمى للمسيح الممسوح بالروح القدس، حيث كانت المسحة في طقوس العهد القديم تتم في تخصيص وإفراز وتدشين ثلاثة من قادة الشعب في العهد القديم وهم: النبي – والكاهن – والملك.
فالنبي: كان يُمسح ويُفرز حتى يشهد لِما يُعلنه الله لهُ ويسعى لتطبيق مشيئة الله، وبذلك وهبنا الروح القدس هنا بنعمة لنعمل به إرادة الله في حياتنا مُتممين الشهادة الحيَّة لما يُعلنه لنا بكلمته المباركة.
والكاهن: يُمسح ليقوم كوسيط بين الله والشعب، ويُصلي شافعاً في الآخرين، ونحن صرنا بمسحة الميرون لنا صِفات كهنوت الله المقدس لنقترب منه ونعبده منكسرين عند قدميه، مقدمين صلاة وعبادة دائمة، بخور الإيمان والمحبة؛ بل ونرفع قلوبنا حاملة آلام الآخرين وخطاياهم وحاجاتهم أمام عرش النعمة، وبذلك نشترك في كهنوت ربنا ومُخلصنا يسوع المسيح.
والملك: يُمسح ليحكم باسم الله، ويكون مثالاً للرب لدى الشعب، ونحن نُلنا بالمسحة المقدسة، أن نكون كهنوت ملوكي لله، لتكون حياتنا منتصرة بقوة على الذات والخطية والتجارب والمشقات. وهذه هي شرف دعوتنا العُليا وبها نكون ملوك حقيقيين في حكم حياتنا بصدق وأمانة إلى المنتهى.
وهكذا ننال بالمسحة هذه الحياة في خدمات ثُلاثية مُباركة.
بل نجد أن رسم المسحة له يُعطينا مع هذه الخدمات الثلاثة ما هو أبدع أيضاً فيعطينا:
(1) مسحة الابتهاج: [ من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رُفقائك ] (مزمور 45: 7)
(2) مسحة للشفاء: [ أمريض أحد بينكم فليدعو شيوخ الكنيسة فيصلُّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب، وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يُقيمه، وأن كان قد فعل خطية تُغفر لهُ ] (يعقوب5: 14، 15)، وهذا ما تُمارسه الكنيسة في سرّ مسحة المرضى.
وبهذا يقول الإنسان بكل فرح وإيمان مع المسيح: [ روح الرب عليّ لأنه مسحني لأُبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب. لأُنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمي بالبصرّ وأُرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة ] (لوقا4: 18، 19)
وهذا ما نصرخ به مع القديس بولس قائلين: [ الذي يُثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله ] (2كورنثوس1: 21)
ثانياً: الختم: [ الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا ] (2كورنثوس1: 22)
* الختم كان له صلة بكل الاصطلاحات التُجارية في كل عصرّ، ويُستعمل للتصديق والتثبيت، وبه يَثبُت المؤمن الذي يعيش مع المسيح بصدق، وذلك بِخَتْمهِ بختم الله وطابعه، وذلك شهادة لقبوله وتصديقاً لإخلاصه.
* والختم علامة للتملك، وبذلك فالروح القدس عندما يختمنا، فإنه يفرزنا ويُكرسنا للهن ويُعلمنا أننا لسنا بعد لذواتنا، ولكننا صرنا خاصة الله، اشتراها المسيح له المجد بدمه الذكي الثمين، وعليه أن نحيا بكل قلوبنا لمجده وخدمته.
* والختم عندما تظهر علامته على شمع الختم، فهو تعبير عن الحقيقة التي في الختم، وهكذا يحوَّل الروح القدس الذي يختمنا، النظريات الروحية إلى حقائق اختبارية في إحساسنا ومداركنا وذهننا الروحي وإرادتنا.
* والختم ينقل الرسم الذي عليه وبذلك يمنحنا الروح القدس، ويمنح لنا قلوباً تُرسم عليها شخص الرب يسوع المسيح، مما يطبع حياتنا بطابع صفاته مع مراعاة ضرورة أن يكون الشمع ليناً لتتضح الصورة عليه، الروح القدس من عمله أن يُلين قلوبنا حتى تتضح صورة المسيح الحبيب فيها، ولا تكون قاسية فيكسر القلب الصلب ويُلينه دائماً.
* فعلينا أن نأتي ونختم تعهدنا الإلهي بقبولنا لعمله فينا [ ومن قبل شهادته فقد خُتم أن الله صادق ] (يوحنا 3: 33)
وبذلك يأتي الروح القدس ويُصَّدَق على أمانتنا ويضع ختمه المجيد على ختمنا الضعيف الذي ختمناه بضعفنا وأيدينا المرتعشة، وعليه يكون الختم مزدوج، وهكذا نكون قد خُتمنا بالتمام ليوم الفداء حيث يأتي المسيح ويرى فينا هذا الختم ويدخلنا إلى ميراث قديسيه في النور.
ثالثاً: العربون: [ وأعطانا عربون الروح في قلوبنا ] (2كورنثوس 1: 22)
* فالعربون جاءت من العبرية ولها مغزى هام ونُقلت بمعناها إلى كل اللغات تقريباً، وايضاً إلى اللغة اليونانية.
* وتُمثل كلمة العربون القسط الأول في عملية الشراء، فعند شراء أي شيء فعلى الشاري أن يدفع مبلغاً فيلتزم البائع بأن يُتمم شروط العقد، كما يلتزم الشاري على دفع الأقساط كاملة، حتى النهاية. فعلينا المثابرة لتحقيق كامل الميراث الموعود به من الله لنا.
* فالروح القدس كعربون هو لنا قسط من الثمن، وايضاً عربون تام لميراثنا السماوي الكامل. فهو باكورة الحصاد. أي أنه القسط الأول من ميراثنا، يسكن في قلوبنا وحياتنا، مؤكداً لميراثنا السماوي الكامل، والفرق فقط في القياس والدرجة، فالعربون يُحمل كبذرة كل الميراث، والميراث هو لنا كمال نمو حياة هذه البذرة في ملكوت السماوات، فهو بذلك:
(1) يؤكد في قلوبنا أنه عربون ميراثنا السماوي الروحي الذي ستقدمه لنا السماء في المجد على حساب عمل المسيح الكامل.
(2) ولكن يوضح لنا القديس بولس أن هُناك فرق بسيط جداً فيقول: [ ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله الذي أعطانا عربون الروح ] (2كورنثوس 5: 5). فهنا لم نحصل بعد على ميراثنا الروحي كاملاً، ولكننا بالعربون نثق في نوال ميراثنا الطبيعي في الله في المجد. هذا هو ما سنلبسه من جسد المجد (القيامة) الذي سيعطيه لنا رب المجد يسوع في منزلنا السماوي الذي مضى ليعده لنا
* فهُنا يمنح عربون الروح القدس قوة تعمل فينا من أجل البهجة والتقوية والمُثابرة، فيجعل حياتنا الحالية تتشرب قوة وحياة إلهية ونُصرة على كل الآلام والأمراض إذ يمنحنا شيء سابق من هذا المجد ونحن نسعى لمجد القيامة، فنكون بذلك [ غير متكاسلين في الاجتهاد حارين في الروح. عابدين الرب ] (رومية 12: 11)
رابعاً: رسائل المسيح: [ ظاهرين أنكم رسالة المسيح مخدومة منا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي لا في ألواح حجرية بل في الوح قلب لحمية ] (2كورنثوس 3: 3)
* هُنا ينقل الروح القدس الساكن فينا صفات الرب يسوع المسيح وسجاياه وحياته في ألواحنا (قلوبنا) الحيَّة، إلى قلوب وحياة الآخرين الذين يروا فينا شخص المسيح الحي.
* فيصير بذلك كل واحد فينا رسالة للمسيح منقولة للآخرين، يقرأه كثيرون ككتاب مقدس. فهذا عمل الروح القدس في كل إنسان مؤمن حقيقي يعيش للمسيح بصدق.
* بالروح القدس ننقل بذلك للعالم الذي نعيش فيه رسالة محبة المسيح الحيَّة ومشيئته المقدسة لخلاص العالم.
* بمعنى آخر نصير نحن مكتوبون كرسالة حيَّة بإصبع الروح القدس الساكن فينا. فإن كانت الألواح الحجرية الذي كُتب عليها الناموس الموسوي صارت مُقدسة ووضعت بعناية شديدة في تابوت العهد حفظاً لها وتأميناً لسلامتها فكم بالحري نكون نحن الآن الذي كتب الروح القدس على ألواح قلوبنا اللحمية كرسالة منقولة للعالم فيها حياة يسوع ذاتها، والمودَعة في حياتنا المقدسة لله (أي تابوتنا) وذلك حفظاً وصوناً وتأميناً لسلامة حياة هذه الرسالة ونقلها إلى قلوب الناس بلا عيب فيها.
* كم إذاً يا إخوتي يحتاج الأمر لقبول الرسالة، وحفظها وصونها ونقلها كحياة مقدسة عاملة بالروح القدس، وامينة وحكيمة وثابتة. حتى تُعرف وتُقرأ من جميع الناس ونقدم المسيح إلى العالم الذي يجهل عمل الفداء المُبارك ونعمته المُخَلِّصة الغنية.
* يا رب ساعدنا أن نكون حاملين ألواح قلب لحمية، وليست حجرية صلبة فتنتقل حياتك يا يسوع بهدوء إلى العالم. وبذلك نكون حقيقةً رسائل حية ليسوع المسيح بالروح القدس العامل فينا.
خامساً: صور للمسيح: [ ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير لتلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كورنثوس 3: 18)
* حقيقةً، نحن بالروح القدس لسنا فقط رسالة مقروءة من الجميع، ولكن رسالة مصورة بصور ورسوم حيَّة فعَّلة.
* هذه الرسالة المصورة توجد في وسط كتاب حياتنا صورة حية يعمل فيها الروح القدس باستمرار ليُتممها ببراعة، حيث فيها يُعلن للعالم مجد يسوع ذاته ويُخفينا نحنُ تماماً، فتظهر صورة المسيح الحي على وجه بشريتنا الناضحة من أعماق قلوبنا فتُصبح الحياة لنا مثالاً حياً للعالم من مجد ربنا فينا.
* فعلينا نوال هذا الشَبَّه العظيم أن نستمر بالنظر في وجه يسوع والتركيز والتحديق فيه بالروح القدس. وعليه يعكس الروح مجده على ملامحنا ويرسم شبهه ومثاله على حياتنا وسلوكنا.
* هذا التفرُّس في وجه الرب يسوع المسيح يكون بوجه مكشوف، حيث لا يوجد بيننا وبينه أي عائق أو برقع أو حجاب أو سحاب. فلابد أن نصغي جيداً للروح القدس وهو يُرشدنا أن نطرح جانباً ما فينا من العالم والجسد وكل عائق، بل نصلبه تماماً بقوة صليب المسيح المبارك وبعمل الروح القدس فينا.
* وعندما نندمج بالمسيح ونثبت في شركته وعِشرته ترتسم فينا صفاته ومثاله وشبهه. من هُنا نقف أمام العالم صورة المسيح الحيَّة، ولسنا فقط رسائل حيَّة.
* نحن بذلك نصير بالروح القدس أسفاراً موضحة برسوم وصور فيها نُعلن للعالم مُخلصنا المُبارك والمجيد، كما أعلن هو اباه القدوس إذ هو صورة الله ورسم جوهره [ الذي (المسيح) وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس عن يمين العظمة في الأعالي ] (عبرانيين 1: 3)
أحبائي اسرعوا في نوال صورة المسيح فيكم بالتفرس في وجهه بالروح القدس الساكن فينا، لتكون الشهادة الحيَّة للمسيح في هذه الأيام .
* ونراعي أن هذه الصورة يؤلفها الروح القدس فينا، يوماً بعد يوم تزداد وضوحاً وجمالاً، أي من (مجد إلى مجد) إلى أن تغوص بعد ذلك في مجد السماء عند مجيء المسيح ليأخذنا له.
* آه يا سيدي الرب هل من ملء الآن لنا نحن عبيدك الصغار. نصرخ إليك املأنا بروحك نحن أولادك الماثلين بين يديك. نلح ونصرُخ ونطلب المسحة، والختم، والعربون، والرسائل الحية، والصورة الحيَّة
يا سيدي الرب يسوع إلى وجهك أيها المُخلِّص الصالح ننظر، أطبع فينا ملامحك ورسالتك وصورتك، هذه هباتك لنا نحن البشر الضعفاء. حمداً وشكراً لك يا مُخلصنا .
المهندس فؤاد فريد قلته
الأحد 3 يونيو 2012م – 26 بشنس 1728 ش
عيد العنصرة، عيد حلول الروح القدس